17 - 07 - 2024

وجهة نظري | نصف دماغ

وجهة نظري | نصف دماغ

عشت عمرى كله "بنصف دماغ"، نصف تركيز.. هكذا اكتشفت فجأة بعدما تجاوزت الستين، أدركت أن نصف عقلى فقط هو ما يعيش الحدث أما النصف الآخر فهو سابح تائه مشغول بأحداث أخرى وتفاصيل أخرى يصنعها خياله ولا يدركها سواه.

عرفت الآن فقط، لماذا لم أفهم مكنون البشر وطبائعهم إلا بعد عقود طويلة، لماذا لم أدرك معانى ومغزى الأحداث إلا بعدما خط الشيب رأسي ، لماذا بالغت في فرحى وفى حزنى ولم أتعلم أن كليهما إلى زوال.

لم أعرف من الدنيا سوى اللونين الأبيض والأسود، لم يدرك خيالى ألوانها العديدة الخلابة الساحرة الخادعة منها والمخادعة الكاذبة.

حال نصف تركيزى الغائب دوما عن فهم حقيقة البشر، كنت أصنفهم جهلا طيبين وأشرارا ولم أع أن لا ملائكة يعيشون بيننا ولا شياطين، وأن كلا منا يحمل بداخله طيبة وشرا ، قبحا وجمالا، أذى ونفعا .. يظهر أيا منهما وفق ما تمليه الظروف والمواقف والمحن والمصالح والشدائد وقسوة التجارب والقلوب.

كنت أرى أن وراء كل إبتسامة قلبا مخلصا بريئا، لم أتوقف عند تلك الابتسامات الصفراء الباهتة المفتعلة الكاذبة .. أو ربما لفتت نظرى لكنى سرعان ماتجاوزتها بنصف عقلى السارح وبررها عقلى الحاضر لتصب في صالح ذوى الإبتسامات الصفراء، ملتمسة لهم العذر بهموم ومشاغل ومتاعب اغتصبت منهم تلك الإبتسامات النقية البريئة.

لا أعرف بدقة كيف مر يومى .!! كم تحمله محفظتى من نقود، كم أنفقت، بكم اشتريت وكم تبقى معى .. لا أعرف بدقة قيمة مرتبى وبالطبع لا أتذكر أول مرتب لي، لم أضع ميزانية للإنفاق وحتى إن وضعتها بضغط من المقربين أجدنى في النهاية أنفق ضعف المفترض الإلتزام به ..

أجدنى أقرب لشخصية سرحان عبد البصير في مسرحيته الشهيرة شاهد ماشافش حاجة !!

لم أدرك قبح الدنيا ونفوس البشر، لم أعرف سوى وجهيهما الجميل .. المشرق الودود المبتسم، لم أعرف أن وراء الجمال قدرا من القبح وأن الوجه المشرق يخفى وراءه وجها عابسا ويختلط الغدر بالود والابتسامة مع العبوس .. وما يكنه الآخرون لك لا تفضحه عيونهم المتمرسة على إخفاء حقيقة مشاعرهم، بل تفاجئك الأيام به لتصفع وجهك بمر الحقيقة.

محظوظة كنت، أم سيئة الحظ بنصف عقلى الغائب؟ 

محظوظة لأنى أتمتع بذاكرة سمكة سرعان ماتنسى نصوص الكلمات، تفاصيل الحوارات، لم أكن أراها تستحق ولم أندم على الكثير مما فاتنى منها.. وإن كنت أغبط أحيانا هؤلاء الذين يحفظون كل ما دار عن ظهر قلب كأنهم أمام ورقة إمتحان، كانت تشغلهم تفاصيل لا تعنينى كثيرا لكنها تمثل لهم الكثير، يستخدمونها لتصب في صالحهم أو خصما من رصيد منافسيهم أو استعدادا لشن هجوم على ما يعتبرونه خصما وعدوا لهم .. لم أهتم يوما بتلك المعارك التي تشغلهم ..كنت أعدها استنزافا لاجدوى منه للطاقة .. عبثية  على عكس هموم وتفاصيل أخرى هي الأجدر في نظرى بالإهتمام والتركيز .. لذلك لم أكن أعتبر ضعف تركيزى نقطة ضعف، خاصة وأنى أتغلب عليه وأقاومهبالكتابة والتدوين فيما أراه مهما حتى لا أنساه ويسقط من ذاكرتى .. ومع ذلك لم أكن أنسى أبدا كلمة أو حرفا أو موقفا ما يجرح المشاعر أو يؤذى الإحساس .. تظل  التفاصيل محفورة بقسوة، لاتندمل جراحها، تنزف ألما لايخفف منه سوى رد وثأر ممن إجترأوا على جرحى واستباحوا ألمى .. فتطوى صفحاتهم من ذاكرتى وتمحى ملامحهم من عيونى، فلا أراهم بعدها أبدا حتى لو التقينا مرارا.

ربما تنتابنى لحظات رفض لذاتى المشتتة الغائبة ..لكن مايعزينى أن نصفى الغائب لا يعرف الندم ونصفى الحاضر لا يعرف الاستسلام للألم.

استسلمت لقدري، مرغمة أحيانا وساخطة في أخرى وساخرة في ثالثة .. لكنى انتهيت إلى الرضا بما كتبه الله لى وعلي، يكفينى أن نصفى عقلى الغائب منه والحاضر لا يجتمعان معا وبقوة إلا في أجمل لحظات حياتي ، عندما أكتب .. يلتقيان فيضفيان على كلماتى وهجا وألقا وإحساسا، ليزداد أملى أن تصل معانيها للعقول وتمس القلوب ويجد بعضا منهم  فيها صدى لهمومه وآلامه وآماله، وهو أقصى ماأتمناه وأحلم به ويسعدنى.

لله الحمد على ما منحنى إياه من نعم ربما لا يدركها العقل إلا بعد فوات العمر .. فليسامحنا الله الغفور الرحيم .
----------------------------
بقلم: هالة فؤاد

مقالات اخرى للكاتب

وجهة نظري | بائعة الخبز وتجار الأوهام